فصل: الشاهد الثاني عشر بعد الستمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد التاسع بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الطويل

وكرار خلف المجحرين جواده *** إذا لم يحام دون أنثى حليلها

على أنه قد فصل اسم الفاعل المضاف إلى مفعوله عنه بظرفٍ، والأصل‏:‏ وكرار جواده خلف المجحرين‏.‏

وهذه رواية الفراء، قال في تفسيره‏:‏ إذا اعترضت صفةٌ بين خافض، وما خفض جاز إضافته، مثل قولك‏:‏ هذا ضارب في الدار أخيه، ولا يجوز إلا في شعر، مثل قوله‏:‏ الطويل

مؤخر عن أنيابه جلد رأسه *** فهن كأشباه الزجاج خروج

بخفض جلد‏.‏

وقال الآخر‏:‏

وكرار دون المحجرين جواده‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

بخفض جواده‏.‏

وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب، إذا حالوا بين الفعل والمضاف بصفة، فيقولون‏:‏ هو ضارب في غير شيءٍ أخاه، يتوهمون إذ حالوا بينهما أنهم نونوا‏.‏ انتهى‏.‏

والصفة عند الكوفيين‏:‏ الجار والمجرور والظرف‏.‏

وتقدم نقل كلام الفراء برمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائتين‏.‏

وأما عند سيبويه فهو مضافٌ إلى خلف، وجواده منصور‏.‏ وهذا نصه‏:‏ ولا يجوز‏:‏ يا سارق الليلة أهل الدار إلا في الشعر، أي‏:‏ بنصب الليلة وجر أهل، كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور‏.‏ وإذا كان منوناً‏.‏ فهو بمنزلة الفعل الناصب، تكون الأسماء فيه منفصلة‏.‏

قال الشماخ‏:‏ الرجز

رب ابن عمٍّ لسليمى مشمعل *** طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

وقال الأخطل‏:‏

وكرار خلف المجحرين جواده‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

قال الأعلم في البيت الأول‏:‏ الشاهد فيه إضافة طباخ إلى ساعات ونصب زاد على التعدي، والتقدير‏:‏ طباخ ساعات الكرى، على تشبيه الساعات بالمفعول به، لا على الظرف‏.‏

ولا يجوز الإضافة إليها، وهي مقدرة على أصلها من الظرف، لأن الظرف يقدر فيه حرف الوعاء، وهو في، والإضافة إلى الحرف غير جائزة، وإنما يضاف إلى الاسم‏.‏

ولما أضاف الطباخ إلى الساعات على هذا التأويل اتساعاً ومجازاً عداه‏.‏ إلى الزاد، لأنه المفعول به في الحقيقة‏.‏ انتهى‏.‏

وتقدم شرحه في الشاهد المذكور‏.‏

وقال في البيت الثاني‏:‏ الشاهد فيه إضافة كرار إلى خلف ونصف الجواد، والقول فيه كالبيت الذي قبله، إلا أن الإضافة إلى خلف أضعف، لقلة تمكنها في الأسماء‏.‏ ويجوز فيه من الفصل ما جاز في الأول، والأول أجود‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ الشاهد إضافة كرار إلى خلف، وهو ظرف، فإذا نصب نصب المفعول به على السعة، جاز أن يضاف إليه، كما يضاف إلى المفعول به، وهذا هو الوجه‏.‏

وقد أنشد بعضهم بجر جواده، فهذا مثل التفسير الذي في‏:‏

طباخ ساعات الكرى زاد الكسل

وهو في كرار خلف أحسن، لأن خلف أقل تمكناً، وأضعف من ساعات‏.‏ انتهى‏.‏

وكرار بالرفع معطوف على عروفٌ في بيت قبله كما يأتي‏.‏ وهو فعال من كر الفارس كراً من باب قتل، إذا فر للجولان ثم عاد للقتال‏.‏ وضمنه معنى العطف والدفع، ولهذا تعدى إلى المفعول‏.‏

والمجحرين اسم مفعول من أجحره، بتقديم الجيم على الحاء المهملة، أي‏:‏ ألجأه إلى أن دخل جحره فانجحر‏:‏ أي‏:‏ يكر كراً كثيراً جواده خلف المجحرين، وهم الملجؤون المغشيون، ليحامى عنهم، ويقاتل في أدبارهم‏.‏

والجواد‏:‏ الفرس الكريم‏.‏ ولم يحام‏:‏ لم يدافع، بإشباع كسرة الميم للوزن‏.‏ ودون بمعنى أمام وقدام‏.‏ وأراد بالأنثى أعم من الزوجة والبنت والأخت والأم‏.‏

والحليل‏:‏ الزوج‏.‏ والحليلة‏:‏ الزوجة، سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل للآخر دون غيره، ولأنه يحل من صاحبه محلاً لا يحله غيره‏.‏ وصفه بالشجاعة والإقدام‏.‏

يقول‏:‏ إذا فر الرجال عن نسائهم وأسلموهن للعدو قاتل عنهم وحماهم‏.‏

ورواية البيت في ديوان الأخطل كذا‏:‏

وكرار خلف المرهقين جواده *** حفاظاً إذا لم يحم أنثى حليلها

والمرهق‏:‏ اسم مفعول من أرهقته، إذا أعسرته وضيقت عليه‏.‏ وقال‏:‏ السكري في شرح ديوانه‏:‏ المرهق‏:‏ الذي قد غشيه السلاح‏.‏ والحفاظ‏:‏ الحماية، علة لقوله‏:‏ كرار‏.‏ وإذا‏:‏ ظرف لكرار‏.‏

والبيت من قصيدة للأخطل النصراني، مدح بها همام بن مطرف التغلبي‏.‏ وهذه أبيات منها‏:‏

رأيت قروم ابني نزارٍ كليهم *** إذا خطرت عند الإمام فحولها

يرون لهمامٍ عليهم فضيلةً *** إذا ما قروم الناس عدت فضولها

فتى الناس همامٌ وموضع بيته *** برابيةٍ يعلو الروابي طولها

فلو كان همامٌ من الجن أصبحت *** سجوداً له جن البلاد وغولها

إلى أن قال‏:‏

جوادٌ إذا ما أمحل الناس ممرعٌ *** كريمٌ لجوعات الشتاء قتولها

إذا نائبات الدهر شقت عليهم *** كفاهم أذاها واستخف ثقيلها

عروفٌ لإضعاف المرازىء ماله *** إذا عج منحوت الصفاة بخيلها

وكرار خلف المرهقين جواده ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

القروم‏:‏ الأشراف والسادة‏.‏ وابنا نزار هما ربيعة ومضر‏.‏ وأمحل الناس‏:‏ أقحطوا‏.‏ وممرع‏:‏ ذو خصب ونعمة‏.‏

وشقت من المشقة‏.‏ والعروف‏:‏ الصبور هنا، ومبالغة العارف‏.‏ وإضعاف مصدر أضعف يضعف، وهو من الضعف ضد القوة‏.‏

والمرازىء‏:‏ جمع المرزأ، بفتح الميم فيهما، مصدرٌ بمعنى المصيبة، وهو حدوث أمرٍ يذهب به المال‏.‏

قال في المصباح‏:‏ الرزية‏:‏ المصيبة، وأصلها الهمز، يقال‏:‏ رزأته ترزؤه مهموز بفتحتين، والاسم الرزء كقفل‏.‏ ورزأته أنا، إذا أصبته بمصيبة‏.‏ وقد يخفف، فيقال‏:‏ رزيته أرزاه‏.‏

وماله فاعل عروف، أي‏:‏ هو عروفٌ ماله‏.‏ وعج‏:‏ صاح‏.‏ والصفاة، بالفتح‏:‏ الصخرة‏.‏

قال السكري‏:‏ ومنحوت الصفاة‏:‏ الذي إذا سئل لم يعط، كما لا يبض الحجر إذا نحت‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ المنحوت الذي يؤخذ منه شيءٌ بعد شيءٍ بشدة‏.‏ يقول‏:‏ هذا الرجل، يعطي إذا ضج من السؤال الرجل الذي يعطي اليسير بعد شدة، ويكون ما يؤخذ منه بمنزلة، ما ينحت من الصخر‏.‏ وبخيلها‏:‏ يريد بخيل النفس، فأضمر‏.‏

وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد العاشر بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ البسيط

هل أنت باعث دينارٍ لحاجتن *** وعبد ربٍّ أخا عون بن مخراق

على أن سيبويه أنشده بنصب عبد رب، ونصبه بتقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل، ليوافق المقدر الظاهر‏.‏

وفيه أن الأولى عند سيبويه تقدير الفعل، فإنه قبل أن قال‏:‏ وزعم عيسى أنهم ينشدون هذا البيت بنصب عبد رب، قال أبو الحسن‏:‏ سمعته من عيسى، قال‏:‏ وتقول في هذا الباب‏:‏ هذا ضارب زيدٍ وعمروٍ، إذا أشركت بين الآخر والأول في الجار، لأنه ليس في العربية شيءٌ يعمل في حرف، فيمتنع أن يشرك بينه وبين مثله‏.‏

وإن شئت نصبت على المعنى، تضمر له ناصباً فتقول‏:‏ هذا ضارب زيدٍ وعمراً، كأنه قال‏:‏ ويضرب عمراً، ووضاربٌ عمراً‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن خلف‏:‏ الشاهد فيه نصب عبد رب بإضمار فعل، كأنه قال‏:‏ وتبعث عبد رب‏.‏ ولا يجوز أن يضمر إلا الفعل المستقبل، لأنه مستفهم عنه، بدليل قوله‏:‏ هل‏.‏ ويجوز أن ينتصب عبد رب بالعطف على موضع دينار، لأنه مجرورٌ في اللفظ، منصوب في المعنى‏.‏ انتهى‏.‏

ولم يصب الأعلم في قوله‏:‏ الشاهد فيه نصب عبد رب حملاً على موضع دينار، لأن المعنى هل أنت باعثٌ ديناراً، وعبد رب‏.‏ انتهى‏.‏

وإلى تقدير الوصف ذهب ابن السراج في الأصول، قال‏:‏ أراد بباعث التنوين، ونصب الثاني لأنه أعمل فيه الأول، كأنه قال‏:‏ وباعث عبد رب‏.‏

ولو جره على ما قبله كان عربياً، إلا أن الثاني كلما تباعد من الأول قوي النصب‏.‏ انتهى‏.‏

وإلى تقدير الفعل لا غير ذهب الزجاجي في الجمل‏.‏

قال ابن هشام اللخمي‏:‏ الشاهد فيه نصب عبد رب بفعل مضمر وهو مذهب سيبويه‏.‏

وقد خطأ بعضهم الزجاجي في قوله‏:‏ تنصبه بإضمار فعل، وقال‏:‏ لا يحتاج هنا إلى الإضمار، لأن اسم الفاعل بمعنى الاستقبال وموضع دينار نصب، فهو معطوفٌ على الموضع، ولا يحتاج إلى تكلف إضمار، وإنما يحتاج إلى تكلف الإضمار إذا كان اسم الفاعل بمعنى المضي لأن إضافته إضافة محضة لا ينوى بها الانفصال‏.‏

والذي قال الزجاجي هو الذي قال سيبويه‏:‏ وتمثيله يشهد لما قلناه، وإن كان جائزاً أن يعطف عبد رب على موضع دينار، ولكن ما قدمنا هو الذي نص عليه سيبويه‏.‏

والدليل على أن المراد بباعث في البيت الاستقبال دخول هل، لأن الاستفهام أكثر ما يقع عما يكون في الاستقبال، وإن كان قد يستفهم عما مضى، كقولك‏:‏ هل قام زيد‏؟‏ لكنه لا يكون إلا بدليل‏.‏ والأصل ما قدمنا‏.‏ انتهى‏.‏

وقد نقل العيني كلام اللخمي برمته ولم يعزه إليه‏.‏

والبيت أورده الزمخشري، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل أنتم مجتمعون‏}‏، قال‏:‏ هو استبطاء لهم في الاجتماع، وحث على مبادرتهم إليه، كما يقول الرجل لغلامه إذا أراد أن يحثه على الانطلاق‏:‏ هل أنت منطلق‏؟‏ وهل أنت باعثٌ ديناراً، أي‏:‏ ابعثه سريعاً، ولا تبطىْ به‏.‏

قال ابن خلف‏:‏ ومعنى باعث موقظ، كأنه قال‏:‏ أوقظ دينار وعبد رب‏.‏ وهما رجلان‏.‏

وقال اللخمي‏:‏ باعث هنا بمعنى مرسل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة‏}‏‏.‏ وقد يكون بمعنى الإيقاظ‏:‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏‏.‏

غير أن الأحسن هنا أن يكون بمعنى الإرسال، إذا لا دليل على النوم في البيت‏.‏

قال الأعلم‏:‏ يحتمل دينار هنا وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون أراد أحد الدنانير، وأن يكون أراد رجلاً يقال له‏:‏ دينار‏.‏

وكذا قال اللخمي‏:‏ دينار وعبد رب‏:‏ رجلان، وقيل‏:‏ أراد بدينار واحد الدنانير، كما قال بعض الشعراء‏:‏ المتقارب

إذا كنت في حاجةٍ مرسل *** وأنت بها كلفٌ مغرم

فأرسل حكيماً ولا توصه *** وذاك الحكيم هو الدرهم

وقال ابن خلف‏:‏ عبد رب الاسم إنما هو ربه، لكنه ترك الإضافة وهو يريدها‏.‏ وأخا عون‏:‏ وصف لعبد رب‏.‏ ويجوز‏:‏ وعبد ربٍّ أخي، بالجر‏.‏

وزعم عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشده منصوباً‏.‏

وقال العيني‏:‏ أخا عون بدل من عبد رب، بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة‏.‏

وقال خضر الموصلي‏:‏ أخا عون، إما عطف بيان لعبد ربه، ونعتٌ له على رواية النصب، ومنادىً عليهما‏.‏ انتهى‏.‏

وعلى النداء يكون أخا عون هو المخاطب في قوله‏:‏ هل أنت‏.‏ وكأن هذا الوجه لبعض من شرح الكشاف‏.‏ ولم أر لخضرٍ الموصلي في تأليفه بنت فكر‏.‏ والله أعلم‏.‏

ومخراق، بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة‏:‏ اسم‏.‏

والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها‏.‏ وقال ابن خلف‏:‏ وقيل هو لجابر بن رألان السنبسي‏.‏ وسنبس‏:‏ أبو حي من طيىءٍ‏.‏

ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير، وإلى تأبط شراً، وإلى أنه مصنوع‏.‏ والله أعلم بالحال‏.‏

اسم المفعول

أنشد فيه‏:‏

أدنو فأنظور

هو قطعة بيتٍ تقدم شرحه في باب الإعراب من أول الكتاب، وهو‏:‏

وأنني حيثما يثني الهوى بصري *** من حيثما سلكوا أدنو فأنظور

الصفة المشبهة

أنشد فيها‏:‏

أقامت على ربعيهما جارتا صف *** كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما

تقدم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الموفي الثلثمائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

روانف أليتيك وتستطارا

هذا عجز، وصدره‏:‏

متى ما تلقني فردين ترجف

والروانف‏:‏ جمع رانفة، وهي طرف الألية، فالأليتان لهما رانفتان‏.‏ وإنما قال‏:‏ روانف، باعتبار ما حول كل رانفة، فتكون الألف في تستطارا ضمير الروانف، لأنها بمعنى رانفتين‏.‏

وهذا قول أبي علي في المسائل البصرية‏.‏

وقد تقدم شرح هذا البيت أيضاً متسوفى مفصلاً في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من شواهد باب المثنى‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الحادي عشر بعد الستمائة

الرجز

أنعتها إني من نعاته *** كوم الذرى وادقةً سراتها

على أن وادقة صفة مشبهة، وفاعلها ضمير مستتر فيها‏.‏ وسراتها‏:‏ منصوب بالكسرة على التشبيه بالمفعول للصفة المشبهة‏.‏

قال أبو علي في المسائل البصرية‏:‏ أنشد الفراء عن الكسائي، وقد رويناه عن ثعلب عنه في نوادر ابن الأعرابي‏:‏ الرجز

أنعتها إني من نعاته *** مدارة الأخفاف مجمراتها

غلب الذفارى وعفرنياته *** كوم الذرى وادقةً سراتها

قال أبو علي‏:‏ هذا على‏:‏ هند حسنةٌ وجهها‏.‏ ففي وادقة ذكرٌ من الإبل وليست للسرات‏.‏ فافهم‏.‏ انتهى‏.‏

وعد ابن عصفور هذا من ضرورة الشعر، قال في كتاب الضرائر‏:‏ ومنه نصب معمول الصفة المشبهة باسم الفاعل في حال إضافته إلى ضمير موصوفها، نحو قولك‏:‏ مررت برجل حسنٍ وجهه بنصب الوجه، ولا يجوز ذلك إلا في ضرورة نحو قوله‏:‏

أنعتها إني من نعاته *** كوم الذرى وادقةً سراتها

ألا ترى أنه قد نون وادقة ونصب معمولها، وهي مضافة إلى ضمير موصوفها، وكان الوجه أن ترفع السرات، إلا أنه اضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع، فحمل الصفة ضميراً مرفوعاً عائداً على صاحب الصفة، ونصب معمول الصفة إجراءً له في حال إضافته إلى ضمير الموصوف مجراه إذا لم يكن مضافاً إليه‏.‏

وكذلك أيضاً لا يجوز خفض معمولها في حال إضافته إلى ضمير الموصوف إلا عند الاضطرار، لأن الخفض لا يكون إلا من نصب‏.‏

ومن ذلك قول الأعشى‏:‏ المتقارب

فقلت له هذه هاته *** إلينا بأدماء مقتادها

ألا ترى أنه أضاف الصفة، وهي أدماء، إلى معمولها، وهو مقتاد في حال إضافته إلى ضمير موصوفه‏.‏

وقول الآخر في الصحيح من القولين‏:‏

أقامت على ربعيهما جارتا صف *** كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما

ألا ترى أنه أضاف الصفة، وهي جونتا إلى معمولها، وهو مصطلًى في حال إضافته إلى ضمير موصوفه‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل ابن الناظم في شرح الألفيه عن سيبويه أن الجر في هذا النحو من الضرورات، وأن النصب من القسم الضعيف‏.‏ وأنشد البيت‏.‏ ولم يصب العيني في قوله‏:‏ الاستشهاد عند ابن الناظم في نصب سراتها، لأن فيه شاهداً على جواز زيد حسنٌ وجهه بالنصب‏.‏ انتهى‏.‏

وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل‏:‏ قوله وادقة سراتها نظير حسن وجهه‏.‏ وسراتها بالكسر في موضع النصب على التمييز‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا إنما هو على مذهب المقتبس أن عبد القاهر، قال‏:‏ الأصل وادقة السرات، فنابت الإضافة عن اللام، كما تنوب اللام عن الإضافة‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن المعهود عند النحاة هو الثاني، لا الأول‏.‏

قال‏:‏ والرجز المذكور أنشد ابن الأعرابي في نوادره على ذلك الترتيب‏.‏

وبعد البيت الشاهد‏:‏

حملت أثقالي مصمماتها

ثم سبعة أبيات أخر لا حاجة لنا بإيرادها‏.‏ وإنما جمعوا في الاستشهاد بين البيت الأول، والبيت الرابع للاختصار، ولظهور المعنى إجمالاً‏.‏

وقوله‏:‏ أنعتها إلخ، الضمير للإبل، فإن النعوت الآتية إنما هي لها‏.‏ نعته نعتاً من باب نفع‏:‏ وصفه‏.‏ ونعات بالضم والتشديد‏:‏ جمع ناعت‏.‏

وقوله‏:‏ مدارة الأخفاف منصوب بتقدير أعني، ونحوه على المدح، وكذا الحال في الأوصاف الآتية‏.‏

والمعنى أن أخفافها مدورة‏.‏ مجمراتها، أي‏:‏ مجمرات الأخفاف‏.‏ والمجمر بضم الميم وسكون الجيم وفتح الميم الثانية، قال صاحب الصحاح‏:‏ حافر مجمر، أي‏:‏ صلب‏.‏

وقوله‏:‏ غلب إلخ، والغلب بفتح الغين المعجمة واللام‏:‏ غلظ الرقبة، والوصف أغلب والجمع غلب‏.‏

والذفارى، بفتح الذال المعجمة بعدها فاء آخره ألف مقصورةٌ‏:‏ جمع ذفرى بكسر الأول وسكون الثاني والقصر، قال صاحب الصحاح‏:‏ الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من البعي خلف الأذن، والألف للتأنيث وقيل للإلحاق بدرهم‏.‏

وأراد بالذفرى العنق، من قبيل المجاز المرسل‏.‏ وعفرنياتها‏:‏ جمع عفرناة بفتح العين المهملة والفاء وسكون الراء والنون، والألف للإلحاق بسفرجل، والتاء للتأنيث، قال صاحب الصحاح‏:‏ وناقة عفرناة، أي‏:‏ قوية‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وقوله‏:‏ كوم الذرى منصوب على المدح كالذي قبله كما تقدم‏.‏ وهو بضم الكاف‏:‏ جمع كوماء بفتحها وبالمد، وهي الناقة العظيمة السنام‏.‏ والذرى بضم الذال‏:‏ جمع ذروة بكسرها، وهي أعلى السنام‏.‏

ووادقة منصوب أيضاً، من ودق، إذا دنا، لأنها إذا سمنت دنت إلى الأرض من سمنها‏.‏ ويقال‏:‏ بعيرٌ وديق السرة، أي‏:‏ سمينها‏.‏

ووادقة صفة مشبهة، لأنه أريد به ثبات معناه ودوامه، وإن كان بزنة اسم الفاعل الموازن يفعل، لأنه لا يراد به تجدد معناه وانقطاعه‏.‏

وقال الخوارزمي‏:‏ ودق‏:‏ دنا، والمراد به السمن ها هنا، لأنها متى سمنت خرجت من السمن سرتها ودنت إليك‏.‏

وسراتها بضم السين وتشديد الراء‏:‏ جمع سرة، وهي موضع ما تقطعه القابلة من الولد‏.‏

قال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية بعد إيراد هذا البيت‏:‏ ولا يجوز تقديم المنصوب على العامل، لأنه مرفوع في المعنى‏.‏

ويجوز في هذه المسألة، وفي مررت بزيد الحسن وجهه، بنصب وجهه، أن تثنى الصفة فيهما وتجمع وتؤنث وتذكر، بحسب المعنى‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ حملت إلخ، هو بتشديد الميم يتعدى إلى مفعولين، الأول أثقالي، وهو جمع ثقل بفتحتين، وهو المتاع، كسبب وأسباب، والثاني‏:‏ مصمماتها، جمع مصممة، بكسر الميم المشددة، من صمم الأمر، إذا مضى فيه‏.‏

وجميع القوافي ما عدا الأولى منصوبة بالكسرة، لأنها جمع مؤنث سالم‏.‏

والزمخشري إنما أورد البيت الشاهد‏.‏ وزعم بعض شراح أبياته من فضلاء العجم أنه عجز، وصدره‏:‏ الرجز

رعت كما شاءت على غراتها

وقال‏:‏ الغرة بالكسر‏:‏ الغفلة‏.‏ وكوم الذرى بالرفع‏:‏ فاعل رعت‏.‏ وهذا من عدم تمييزه بين الرجز والشعر، مع أن الذي ضمه ليس من الرجز‏.‏

وهذا الرجز لم ينسبه ابن الأعرابي إلى أحد، وإنما قال‏:‏ هو لبعض الأسديين يصف إبلاً‏.‏ وقال العيني‏:‏ قائله عمير بن لحا، بالحاء المهملة، التيمي‏.‏

ولم أعرف شاعراً كذا، وإنما المعروف عمر بن لجأ التيمي‏.‏ وعمر مكبر لا مصغر‏.‏ ولجأ بفتح اللام والجيم مهموز الآخر‏.‏ والله أعلم بحقيقة الأمر‏.‏

والبيت الذي أنشده ابن عصفور لأعشى بكر إنما الرواية فيه‏:‏

فقلت له هذه هاته *** بأدماء في حبل مقتادها

فلا ضرورة فيه‏.‏

وقبله‏:‏ المتقارب

فقمنا ولما يصح ديكن *** إلى جونةٍ عند حدادها

ويعني بالحداد الخمار، لأنه يمنع من الخمر ويحفظها‏.‏ وكل من حفظ شيئاً، ومنع منه فهو حداد‏.‏ وهذه إشارة إلى الجونة المذكورة، وهي الخابية، جعلها جونة لاسودادها من القار‏.‏

والمعنى‏:‏ هات هذه الجابية وخذ هذه الناقة الأدماء، أي‏:‏ البيضاء، بحبل قائدها‏.‏ والأدمة في الإبل‏:‏ البياض، وفي الناس‏:‏ السمرة، وفي الظباء‏:‏ سمرةٌ في ظهورها وبياضٌ في بطونها‏.‏ وضمير له للحداد‏.‏ وبأدماء حال، كأنه قال‏:‏ مشتراة بأدماء‏.‏ وفي حبل صفة لأدماء، كأنه قال‏:‏ بأدماء مشدودة في حبل قائدها، وخبر لمبتدأ محذوف، أي‏:‏ وهي في حبل قائدها‏.‏ والجملة حال‏.‏ والجونة بفتح الجيم، معناه السوداء‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني عشر بعد الستمائة

وهو من شواهد سيبويه‏:‏ الرجز

الحزن باباً والعقور كلبا

على أنه كناية عن البخل، كما أن جبان الكلب كناية عن الجود‏.‏

وأنشده سيبويه على أن نصب باب وكلب على حد الحسن وجهاً‏.‏

والبيت من رجز لرؤبة بن العجاج‏.‏ وقبله‏:‏

فذاك وخمٌ لا يبالي السبا

والوخم‏:‏ الثقيل‏.‏ يقول‏:‏ ذاك من الرجال وخمٌ ثقيل لا يرتاح لفعل المكارم، ولا يهش للجود، ولا يبالي أن يسب، ويروى المال أحب إليه من عرضه‏.‏

والحزن، بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي‏:‏ صفة مشبهة، وهو خلاف السهل‏.‏ وكذلك العقور صفة مشبهة‏.‏

قال الأزهري‏:‏ الكلب العقور‏:‏ هو كل كلب يعقر، من الأسد والفهد والنمر والذئب‏.‏ يقال‏:‏ عقر الناس عقراً، من باب ضرب، أي‏:‏ جرحهم، فهو عقور، والجمع عقرٌ مثل رسول ورسل‏.‏ وباباً وكلباً تمييزان‏.‏

وصف رؤبة رجلاً بشدة الحجاب، ومنع الضيف، فجعل بابه حزناً وثيقاً، لا يستطاع فتحه، وكلبه عقوراً لمن حل بفنائه طالباً لمعروفه‏.‏

يقول‏:‏ إن من أتاه لقي قبل الوصول إليه ما يكره من حاجب وبوابٍ وصاحب‏.‏ وجعل له كلباً على طريق الاستعارة، كما يكون في البادية‏.‏

وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

لحافي لحاف الضيف والبرد برده

على أن اللام في قوله‏:‏ والبرد بدل من الضمير، والتقدير‏:‏ وبردي برده‏.‏ وهذا صدرٌ، وعجزه‏:‏

ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع

وقد تقدم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين‏.‏

وأنشد بعده‏:‏ الطويل

رحيب قطاب الجيب منها

تمامه‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏رفيقةٌ *** بجس الندامى بضة المتجرد

على أن رحيب مضاف إلى قطاب، وقطاب مضاف إلى الجيب‏.‏

وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي بعد الثلثمائة من باب الإضافة‏.‏

والرواية الصحيحة تنوين رحيب ورفع قطاب على الفاعلية‏.‏ وضمير منها لقينة في بيت قبله‏.‏

والرحيب‏:‏ الواسع‏.‏ وقطاب الجيب‏:‏ مجتمعه حيث قطب، أي‏:‏ جمع، وهو مخرج الرأس من الثوب‏.‏ وإنما وصف قطاب جيبها بالسعة لأنها كانت توسعه، ليبدو صدرها، فينظر إليه، ويتلذذ به‏.‏

ورفيقة بالفاء ثم القاف‏:‏ الملائمة واللينة‏.‏ والجس بفتح الجيم‏:‏ اللمس‏.‏

وبضة‏:‏ ناعمة رقيقة‏.‏

والمراد بالمتجرد حيث يتجرد من بدنها، أي‏:‏ يعرى من الثوب، وهو الأطراف‏.‏ وخصه بالذكر مبالغةً في نعومتها، لأنه إذا كان ما تصيبه الريح والشمس والبرد من اليدين والرجلين بضاً ناعماً رقيقاً، كان المستتر بالثياب أشد بضاضة ونعومة‏.‏

وهذا هو معنى الجيد بخلاف ما أسلفناه هناك تبعاً لشراح المعلقات، وهو قولنا المتجرد‏:‏ ما ستره الثياب من الجسد، أي‏:‏ هي بضة الجسم عند التجريد من ثيابها‏.‏ ولا يخفى ضعفه وركاكته‏.‏ وهذا المعنى لاح لنا ولله الحمد‏.‏

والبيت من معلقة طرفة بن العبد، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة‏.‏

أفعل التفضيل

أنشد فيه،

الشاهد الثالث عشر بعد الستمائة

الرجز

أبيض من أخت بني أباض

على أن الكوفيين أجازوا بناء أفعل التفضيل من لفظي السواد والبياض كما هنا، وهو شاذٌ عند البصريين‏.‏

قال شارح اللباب‏:‏ أجاز الكوفيون التعجب من السواد والبياض لأنهما أصول الألوان‏.‏

وأنشدوا‏:‏ البسيط

إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم *** فأنت أبيضهم سربال طباخ

وأنشدوا أيضاً‏:‏

جاريةٌ في درعها الفضفاض *** أبيض من أخت بني أباض

وجاء في شعر المتنبي‏:‏ البسيط

لأنت أسود في عيني من الظلم

وقالوا‏:‏ لما جاء منهما أفعل التفضيل جاء بناء التعجب‏.‏ والاستشهادات ضعيفة، لأنها من ضرورة الشعر لا في سعة الكلام، فيكون نادراً‏.‏

وقولهم‏:‏ إنهما أصلان للألوان ممنوع، وبعد تسليمه، فدليل المنع قائمٌ فيهما، وإن كانا من أصول الألوان‏.‏

وقال أيضاً في آخر الكتاب‏:‏ هذه الأبيات بحجة للشذوذ، مع أنه يحتمل أن يكون أبيض في البيتين أفعل الذي مؤنثه فعلاء، فلا يكن للتفضيل، فكأنه قال‏:‏ أنت مبيضهم‏.‏ وانتصب سربال على التمييز‏.‏

وكذا البيت الآخر لا يكون بالتفضيل أيضاً، بل معناه مبيضة هي من أخت بني أباض‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا محصل كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف، وقال‏:‏ الأبيات ضرورة، وأبيض فيهما أفعل الذي مؤنثه فعلاء، لا الذي يراد به المفاضلة، فكأنه قيل في الأول‏:‏ مبيضهم‏.‏

وفي الثاني‏:‏ جسدٌ مبيض من أخت بني أباض، ويكون من أخت في موضع الصفة‏.‏

وقال ابن يعيش في باب التعجب‏:‏ فإن قيل‏:‏ لو كان الأمر كما قلتم، لقيل‏:‏ بيضاء، لأنه من صفة الجارية‏.‏

قيل‏:‏ إنما قال أبيض لأنه أراد في درعها الفضفاض جسدٌ أبيض، فارتفاعه بالابتداء، والجار والمجرور قبله الخبر، والجملة من صفة الجارية‏.‏ انتهى‏.‏

وكذا صنيع الشريف المرتضى في أماليه الغرر والدرر وزاد في البيت الأول أن أبيض، وإن كان في الظاهر عبارةً عن اللون، فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل، فحمل لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ‏.‏

ولو أنه أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة، لما جاز أن يتعجب بلفظ أفعل‏.‏ فالذي جوز تعجبه بهذه اللفظة ما ذكرناه‏.‏

هذا كلامه‏.‏

ولا يخفى أن البياض لم يستعمل قط في اللؤم والبخل، وإنما استعمله في المدح، وإنما كان هنا ذماً بالنسبة إلى الطباخ‏.‏ والكلمة في البيت أفعل تفضيل لا تعجب‏.‏ وهذا ظاهر‏.‏

ولما كان الظاهر باقتضاء المعنى أن أفعل في الأبيات الثلاثة للتفضيل لم يتعسف الشارح المحقق في تأويلها بإخراجها عن التفضيل، بل أجاب بأنها من قبيل الشذوذ وضرورة الشعر‏.‏ فلله دره ما أبعده مرماه، وما أحكم مغزاه‏!‏ وأغرب ما رأيته قول بعضهم‏:‏ شبه كثرة أولادها لغير رشدةٍ بالبيض‏.‏ وأبيض بمعنى كثير البيض جائز‏.‏ هذا كلامه ولا وجه له‏.‏

وقال ابن يعيش في باب أفعل التفضيل‏:‏ من اعتل بأن المانع من التعجب من الألوان أنها معان لازمة كالأعضاء الثابتة، نحو اليد والرجل، فهذا البيتان شاذان قياساً واستعمالاً عنده‏.‏

ومن علل بأن المانع من التعجب كون أفعالها زائدة، فهما شاذان عند سيبويه وأصحابه من جهة القياس والاستعمال‏.‏

أما القياس فإن أفعالها ليست ثلاثية على فعل ولا على أفعل، إنما هو افعل وافعال‏.‏ وأما الاستعمال فأمره ظاهر‏.‏

وأما عند أبي الحسن الأخفش والمبرد فإنهما ونحوهما شاذان من جهة الاستعمال، صحيحان من جهة القياس، لأن أفعالهما بزيادة، فجاز تقدير حذف الزوائد‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل‏:‏ البيت الشاهد من رجز لرؤبة بن العجاج‏.‏

وقبله‏:‏ الرجز

لقد أتى في رمضان الماضي *** جاريةٌ في درعها الفضفاض

تقطع الحديث بالإيماض *** أبيض من أخت بني أباض

قال‏:‏ كذا أنشده ابن جني‏.‏ انتهى‏.‏

ولم أره في ديوانه‏.‏ ورأيت في نوادر ابن الأعرابي، ولم ينسبه إلى أحد‏:‏ الرجز

يا ليتني مثلك في البياض *** أبيض من أخت بني أباض

جاريةٌ في رمضان الماضي *** تقطع الحديث بالإيماض

قال ابن السيد واللخمي‏:‏ وزاد غير ابن الأعرابي على هذا‏:‏

مثل الغزال زين بالخضاض *** قباء ذات كفلٍ رضراض

قال ابن الأعرابي بعد الإنشاد‏:‏ إذا أومضت تركوا حديثهم، ونظروا إليها من حسنها‏.‏ وقوله‏:‏ في رمضان الماضي، كان الربيع جمعهم في ذلك الوقت‏.‏

وأورده الفراء في كتاب الأيام والليالي شاهداً على أنه يقال‏:‏ رمضان بدون شهر، كما يقال معه‏.‏

وقال أبو عمر الزاهد المطرزي، الشهير بغلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة بعد إنشاد الأبيات عن ابن الأعرابي وعن الفراء، قالا‏:‏ يقال هذا شهر رمضان، وهذا رمضان، بلا شهر‏.‏

وأنشد فيمن قال بلا شهر‏:‏

جاريةٌ في رمضان الماضي

وأخبرنا ثعلب بن سلمة عن الفراء عن الكسائي، قال‏:‏ كان الرؤاسي يكره أن يجمع رمضان، ويقول‏:‏ بلغني أنه اسمٌ من أسماء الله تعالى‏.‏ انتهى‏.‏

وقال اللخمي‏:‏ قال أبو عمرو‏:‏ والعرب تركوا الشهور كلها مجردةً إلا شهر ربيع وشهر رمضان‏.‏ ويرد عليه أن رؤبة أتى برمضان هنا مجرداً من الشهر، وهو من فصحاء العرب‏.‏

وجاء في الحديث الصحيح‏:‏ من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ‏.‏ ولكن إثبات الشهر أفصح، كما نطق به القرآن‏.‏ انتهى‏.‏

والدرع‏:‏ القميص‏.‏ والفضفاض‏:‏ الواسع‏.‏ وأخت بني أباض، بفتح الهمزة بعدها موحدة، قال اللخمي‏:‏ معروفة بالبياض‏.‏

وقال ابن السيد‏:‏ وبنو أباض‏:‏ قوم‏.‏ والخضاض، بكسر المعجمة‏:‏ اليسير من الحلي، وقيل هو نوعٌ منه‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الطويل

ولو أشرفت من كفة الستر عاطل *** لقلت‏:‏ غزالٌ ما عليه خضاض

والقباء‏:‏ الضامرة البطن، فعلاء من القبب، وهو دقة الخصر‏.‏ والرضراض، بالفتح‏:‏ الكثير اللحم‏.‏

وقوله‏:‏ تقطع الحديث إلخ، أورده ابن هشام في المغني مع قوله‏:‏

جارية في رمضان الماضي

وقال إن تقطع حكايةٌ للحال الماضية‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنها إذا تبسمت، وكان الناس على حديثٍ، قطعوا حديثهم، ونظروا إلى حسن ثغرها‏.‏

وكذلك قال ابن السيد‏:‏ الإيماض‏:‏ ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام‏.‏ وشبهه بوميض البرق‏.‏

وقد بين ذلك ذو الرمة بقوله‏:‏ الطويل

وتبسم لمح البرق عن متوضحٍ *** كلون الأقاحي شاف ألوانه القطر

وقال آخر‏:‏ الطويل

كأن وميض البرق بيني وبينه *** إذا حان من بعض البيوت ابتسامها

وقال اللخمي‏:‏ معنى الإيماض أنهم إذا تحدثوا فأومضت إليهم، أي‏:‏ نظرت، شغلهم حسن عينيها، فقطعو حديثهم، وقيل‏:‏ الإيماض هنا التبسم‏.‏

شبه ابتسامها بوميض البرق في لمعانه، فيكون معناه كمعنى القول الأول‏.‏

ويحتمل أن تكون هي المحدثة، وأنها تقطع حديثها بالتبسم‏.‏ يصفها بطلاقة الوجه، وسماحة الخلق‏.‏

كما قال ذو الرمة‏:‏ الطويل

يقطع موضوع الحديث ابتسامه *** تقطع ماء النون في نزف الخمر

واقتصر الدماميني في الحاشية الهندية في تفسير الإيماض على قول اللخمي أولاً، ولكن قوله‏:‏ يجوز رفع جارية على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ محبوبتي جارية، ويجوز جرها برب محذوفة‏.‏ انتهى غير جيد‏.‏

قال اللخمي‏:‏ جارية فاعل يأتي الواقع في البيت الذي قبل هذا، والفضفاض نعتٌ للدرع، وأبيض نعتٌ للجارية‏.‏ انتهى‏.‏

والعجب من غلام ثعلب، حيث قال بعدما نقل تفسير الفراء للإيماض‏:‏ هذا خطأ لأن الإيماض لا يكون في الفم، إنما يكون في العينين، وذلك أنهم كانوا يتحدثون، فنظرت إليهم واشتغلوا بحسن نظرها عن الحديث ومضت‏.‏ انتهى‏.‏

ويرد عليه ما تقدم، وقول المبرد في الكامل عند قول الشاعر‏:‏ الخفيف

لا أحب النديم يومض بالعي *** ن إذا ما انتشى لعرس النديم

قال‏:‏ الإيماض تفتح البرق ولمحه، يقال‏:‏ أومضت المرأة إذا ابتسمت‏.‏ وإنما ذلك تشبيهٌ للمع ثناياها بتبسم البرق‏.‏ فأراد أنه فتح عينه، ثم غمضها بغمزٍ‏.‏ انتهى‏.‏

وأما قوله‏:‏ إذا الرجال شتوا إلخ، فهو من أبياتٍ لطرفة بن العبد، هجا بها ملك الحيرة عمرو بن هند‏.‏

ويروى كذا‏:‏

أنت ابن هندٍ فأخبر من أبوك إذن *** لا يصلح الملك إلا كل بذاخ

إن قلت نصرٌ فنصرٌ كان شرفني *** قدماً وأبيضهم سربال طباخ

ما في المعالي لكم ظلٌّ ولا ورقٌ *** وفي المخازي لكم أسناخ أسناخ

مع أبيات أخر‏.‏

قال ابن الكلبي‏:‏ هذا الشعر منحول‏.‏

وقوله‏:‏ واشتد أكلهم، أراد بالأكل القوت، وهو مضموم الهمزة، أي‏:‏ غلت أسعارهم‏.‏

ومن روى‏:‏ أكلهم بفتح الهمزة، جعل الأكل بمعنى المأكول، وقد يكون معناه أنهم إذا شتوا لا يجدون الطعام إلا بعد جهد وشدة وجوع، فإذا وجدوه بالغوا في الأكل‏.‏

ومن روى‏:‏ أكلهم بضم الهمزة وتشديد الكاف فهو جمع آكل، هو راجعٌ إلى المعنى الذي قدمت آنفاً‏.‏ والسربال‏:‏ القميص‏.‏

يقول‏:‏ إذا دخل فصل الشتاء الذي يمنع من التصرف، وانقطعت الميرة، وغلت الأسعار، واشتد القوت فسربال طباخك نقي للؤمك‏.‏ ولو كنت كريماً لاسود لكثرة طبخه، على ما عهد من سربال الطباخين‏.‏

وهذا ضد قول مسكين الدرامي‏:‏ الوافر

كأن قدور قومي كل يومٍ *** قباب الترك ملبسة الجلال

كأن الموقدين لها جمالٌ *** طلاها الزفت والقطران طالي

بأيديهم مغارف من حديدٍ *** أشبهها مقيرة الدوالي

وأنشد ابن السكيت في أبيات المعاني بيت طرفة‏.‏

ومثله قول الآخر‏:‏ المتقارب

ثياب طهاتك عند الشت *** ء بيضٌ تلألأ لا تدنس

وقدرك لم يعرها طارقٌ *** وكلبك منجحرٌ أخرس

قال‏:‏ كلبه ينجحر، لأنه لا يأتيه طارق، ولا يكون في مكان يأتيه فيه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع عشر بعد الستمائة

البسيط

لأنت أسود في عيني من الظلم

لما تقدم قبله، من أن أسود أفعل تفضيل من السواد، جاء على الشذوذ‏.‏

والمعنى عليه، لأن الغرض كون بياض الشيب في نظره أشد من سواد الظلم، مبالغةً في كراهة الشيب‏.‏

وهو عجز، وصدره‏:‏

ابعد بعدت بياضاً لا بياض له

والبيت ثاني بيتٍ من قصيدةٍ لأبي الطيب المتنبي، قالها في صباه‏.‏ وقبله وهو مطلعها‏:‏

ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم *** والسيف أحسن فعلاً منه باللمم

وتقدم بيتٌ منها في باب الحال‏.‏

قال الإمام الواحدي في شرح ديوان المتنبي‏:‏ جميع من فسر هذا الشعر قال في قوله‏:‏

لأنت أسود في عيني من الظلم

إن هذا من الشاذ الذي أجازه الكوفيون، من نحو قوله‏:‏

أبيض من أخت بني أباض

وسمعت العروضي يقول‏:‏ أسود ها هنا‏:‏ واحد السود‏.‏ والظلم‏:‏ الليالي الثلاث في آخر الشهر، التي يقال لها‏:‏ ثلاثٌ ظلمٌ‏.‏ يقول لبياض شيبه‏:‏ أنت عندي واحدٌ من تلك الليالي الظلم‏.‏

على أن أبا الفتح قد قال ما يقارب هذا‏.‏ وقد يمكن أن يكون لأنت أسود في عيني كلاماً تاماً، ثم ابتدأ يصفه، فقال‏:‏ من الظلم، كما يقال هو كريمٌ من أحرار‏.‏

وهذا يقارب ما ذكره العروضي، غير أنه لم يجعل الظلم الليالي في آخر الشهر‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا التأويل محصل للمبالغة المذكورة بجعل الأسود من أفراد الليالي الحنادس، مع تفصيه من الشذوذ‏.‏

وقد مشى على هذا التأويل جماعة، منهم الشريف المرتضى في أماليه، قال‏:‏ لأنت أسود في عيني كلام تام، ثم قال من الظلم، أي‏:‏ من جملة الظلم، كما يقال حرٌّ من أحرار، ولئيم من لئام، أي‏:‏ من جملتهم‏.‏

قال الشاعر‏:‏ الطويل

وأبيض من ماء الحديد كأنه *** شهابٌ بدا والليل داجٍ عساكره

كأنه قال‏:‏ وأبيض كائن من ماء الحديد‏.‏ فقوله‏:‏ من ماء الحديد وصف لأبيض، وليس يتصل به كاتصال من بأفضل في قولك‏:‏ هو أفضل من زيد، وكذلك من الظلم في بيت المتنبي‏.‏

ومنهم الحريري في درة الغواص قال‏:‏ وقد عيب على المتنبي هذا البيت‏.‏ ومن تأويل له فيه جعل أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء، وأخرجه عن حيز أفعل التقضيل، ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام وكملت الحجة في قوله‏:‏ لأنت أسود في عيني، وتكون من التي في قوله من الظلم لتبيين جنس السواد، لأنها صلة أسود‏.‏

ومنهم ابن هشام في المغني، قال‏:‏ علق بعضهم من بأسود، وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل، وذلك ممتنعٌ في الألوان‏.‏ والصحيح أن من الظلم صفة لأسود، أي‏:‏ أسود كائن من جملة الظلم‏.‏

وكذلك قوله أيضاً‏:‏ الكامل

يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ *** ذهبت بخضرته الطلى والأكبد

من دم إما تعليل، أي‏:‏ أحمر من أجل التباسه بالدم، وصفة‏.‏ كأن السيف لكثرة التباسه بالدم صار دماً‏.‏

وقوله‏:‏ ابعد هو بكسر الهمزة وفتح العين‏:‏ أمرٌ من بعد يبعد، من باب فرح، بمعنى هلك وذل‏.‏

قال الواحدي‏:‏ وعنى بالبياض الأول الشيب‏.‏ يقول‏:‏ يا بياضاً ليس له بياض‏!‏ يعني به معنى قول أبي تمام‏:‏ الطويل

له منظرٌ في العين أبيض ناصعٌ *** ولكنه في القلب أسود أسفع

وقال الشريف المرتضى قدس سره‏:‏ المعنى ظاهر للناس فيه أنه أراد لا ضياء له ولا نور ولا إشراق، من حيث كان حلوله محزناً مؤذناً بتقضي الأجل‏.‏

وهذا لعمري معنًى ظاهر، إلا أنه يمكن فيه معنًى آخر وهو يريد‏:‏ إنك بياضٌ لا لون بعده‏:‏ لأن البياض آخر ألوان الشعر، فجعل قوله‏:‏ لا بياض له بمنزلة قوله لا لون بعده‏.‏

وإنما سوغ ذلك له أن البياض هو الآتي بعد السواد، فلما نفى أن يكون للشيب بياضٌ كما نفياً لأن يكون بعده لون‏.‏ انتهى‏.‏

وبياضاً‏:‏ تمييز محول عن الفاعل، والعرب تكنى بالبياض عن الحسن، ومنه يد بيضاء‏.‏ أي‏:‏ أهلك الله من لا بياض له‏.‏

والظلم‏:‏ جمع ظلمة، بمعنى الظلام، ويكون اسماً لثلاث ليالٍ من آخر الشهر‏.‏

وقوله‏:‏ ضيفٌ ألم برأسي إلخ، قال الواحدي‏:‏ عنى بالضيف الشيب، كما قال الآخر‏:‏ السريع

أهلاً وسهلاً بمضيفٍ نزل *** أستودع الله أليفاً رحل

يريد الشيب والشباب‏.‏ والمحتشم‏:‏ المتقبض والمستحي‏.‏ يريد أن الشيب ظهر في رأسه شائعاً دفعةً من غير أن يظهر في تراخ ومهلة‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ غير محتشم‏.‏

ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب لأن الشيب يبيضه، وذاك أقبح ألوان الشعر، ولذلك سن تغييره بالحمرة، والسيف يكسبه حمرة‏.‏

على أن ظاهر قوله‏:‏ أحسن فعلاً منه باللمم يوجب أن الشعر المقطوع بالسيف أحسن من الشعر الأبيض بالشيب، لأن السيف إذا صادف الشيب قطعه، وإنما يكسبه حمرةً إذا قطع اللحم‏.‏

وقد قال البحتري‏:‏ الطويل

وددت بياض السيف يوم لقينني *** مكان بياض الشيب حل بمفرقي

فجعل نزول السيف برأسه، أحب إليه من نزول الشيب‏.‏ انتهى‏.‏

وقد ضمن البوصيري، صاحب البردة، مطلع المتنبي، فقال‏:‏ وأجاد‏:‏ البسيط

ولا أعدت من الفعل الجميل قرى *** ضيفٍ ألم برأسي غير محتشم

وقد تقدمت ترجمة المتنبي في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس عشر بعد الستمائة

الكامل

إن الذي سمك السماء بنى لن *** بيتاً دعائمه أعز وأطول

على أنه يجوز أن يكون حذف منه المفضول، أي‏:‏ أعز من دعائم كل بيت، ومن دعائم بيتك‏.‏

وعليه اقتصر صاحب المفصل واللباب‏.‏

وقدره بعضهم‏:‏ أعز من سائر الدعائم‏.‏ وقال ابن المستوفي‏:‏ قالوا أعز وأطول من السماء، على مبالغة الشعراء‏.‏

ونقل التبريزي في شرح الكافية عن الطرماح أنه قال للفرزدق‏:‏ يا أبا فراس، أعز مم وأطول مم‏؟‏ فأذن مؤذن‏.‏ وقال‏:‏ الله أكب‏!‏ فقال الفرزدق‏:‏ يا لكع، ألم تسمع ما يقول المؤذن، أكبر مم ذا‏؟‏ فقال‏:‏ من كل شيء‏.‏ فقال‏:‏ أعز من كل عزيز، وأطول من كل طويل‏.‏ انتهى‏.‏

ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه، أي‏:‏ أعز دعامةٍ وأطولها‏.‏

وبقي احتمالٌ ثالث، وهو أن يكون أفعل فيه بمعنى فاعل‏.‏ قال المبرد في الكامل‏:‏ وجائز أن يكون التقدير‏:‏ دعائمه عزيزة وطويلة‏.‏

وبه أورده ابن الناظم وابن عقيل في شرح الألفية‏.‏

قال العيني‏:‏ الاستشهاد فيه أنهما على وزن أفعل التفضيل، ولكن لم يقصد بهما تفضيل، فإنهما بمعنى عزيزة وطويلة‏.‏

وعمم الخلخالي في شرح تلخيص المفتاح، فقال‏:‏ أي من كل شيء، ومن بيتك يا جرير، ومن السماء، وغزيزٍ طويل‏.‏

ونقل أبو حيان في تذكرته عن أبي عبيدة، أنه قال‏:‏ يكون أفعل بمعنى فعيل وفاعل، غير موجب تفضيل شيء على شيء، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏‏.‏ وبقول الأحوص‏:‏ الكامل

قسماً إليك مع الصدود لأميل

وبقول الفرزدق‏:‏

بيتاً دعائمه أعز وأطول

وبقول الآخر‏:‏ الطويل

تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت *** فتلك سبيلٌ ليست فيها بأوحد

قال أبو حيان‏:‏ وزرى النحويون عليه هذا القول، ولم يسلموا له هذا الاختيار، وقالوا‏:‏ لا يخلو أفعل من التفضيل‏.‏ وعارضوا حججه بالإبطال، وتأولوا ما استدل به‏.‏ انتهى‏.‏

ونقل الخلاف ابن الأنباري في الزاهر، قال‏:‏ قولهم الله أكبر، سمعت أبا العباس، يقول‏:‏ اختلف أهل العربية، فقالوا‏:‏ معناه كبير‏.‏

واحتجوا بقول الفرزدق‏:‏

دعائمه أعز وأطول

أراد‏:‏ دعائمه عزيزة طويلة‏.‏

واحتجوا بقول الآخر‏:‏

لست فيها بأوحد

وبقول معن‏:‏ الطويل

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

أراد‏:‏ لوجلٌ‏.‏

وبقول الأحوص‏:‏

قسماً إليك مع الصدود لأميل

أراد‏:‏ المائل‏.‏ واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏، قالوا‏:‏ معناه هين عليه‏.‏ وقال الكسائي والفراء وهشام‏:‏ الله أكبر معناه أكبر من كل شيء، فحذفت من لأن أفعل خبر‏.‏

واحتجوا بقول الشاعر‏:‏ الطويل

إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن *** سراجٌ لنا إلا ووجهك أنور

أراد‏:‏ أنور من غيره‏.‏

وقال معن‏:‏ الطويل

ولا بلغ المهدون نحوك مدحةً *** ولو صدقوا إلا الذي فيك أفضل

أراد‏:‏ أفضل من قولهم‏.‏ انتهى‏.‏

وقال المبرد في الكامل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلم السر وأخفى‏}‏ تقديره في العربية‏:‏ وأخفى منه‏.‏ والعرب تحذف مثل هذا فيقول القائل‏:‏ مررت بالفيل وأعظم، وإنه كالبقة وأصغر‏.‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو أهون عليه‏}‏ ففيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو المرضي عندنا إنما هو‏:‏ وهو عليه هين، لأن الله جل وعز لا يكون شيءٌ أهون عليه من شيء آخر‏.‏

وقال معن بن أوس‏:‏

لعمرك ما أدري وإني لأوجل

أراد‏:‏ وإني لوجلٌ‏.‏ وكذلك يكون ما في الأذان‏:‏ الله أكبر، الله أكبر أي‏:‏ الله كبير، لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا كانا من جنس واحد، فيقال‏:‏ هذا أكبر من هذا، إذا شاكله في بابٍ‏.‏

فأما‏:‏ الله أجود من فلان والله أعلم بذلك منه، فوجهٌ بين لأنه من طريق العلم والمعرفة، والبذل والإعطاء‏.‏ وقوم يقولون‏:‏ الله أكبر من كل شيء‏.‏ وليس يقع هذا على محض الرؤية، لأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء‏.‏

وكذلك قول الفرزدق‏:‏

إن الذي سمك السماء ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

جائز أن يكون قال للذي يخاطبه‏:‏ من بيتك، فاستغنى عن ذكر ذلك، بما جرى من المخاطبة والمفاخرة‏.‏

وجائز أن تكون دعائمه عزيزة طويلة، كما قال الآخر‏:‏ الرجز

قبحتم يا آل زيدٍ نفر *** ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا

يريد صغاراً وكباراً‏.‏ فأما قول مالك بن نويرة في ذؤاب بن ربيعة حيث قتل عتيبة بن الحارث بن شهاب، وفخر ببني أسد بذلك مع كثرة من قتل بنو يربوع منهم‏:‏ الكامل

فخرت بنو أسدٍ بمقتل مالك *** صدقت بنو أسدٍ عتيبة أفضل

فإنما معناه أفضل ممن قتلوا‏.‏ على ذلك يدل الكلام‏.‏ وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله‏:‏

فخروا بمقتله ولا يوفي به *** مثنى سراتهم الذين نقتل

والقول الثاني في الآية‏:‏ وهو أهون عليه عندكم، لأن إعادة الشيء عند الناس، أهون من ابتدائه حتى يجعل شيءٌ من غير شيء‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ سمك السماء إلخ، سمك بمعنى رفع، وأراد بالبيت بيت العز والشرف‏.‏

وقال الخلخالي‏:‏ المراد بالبيت هو الكعبة، وقيل‏:‏ هو العزة‏.‏ وتبعه العيني والعباسي في المعاهد‏.‏

قال ابن يعيش‏:‏ وأطول ها هنا من الطول بالفتح، الذي هو في الفضل، لا من الطول بالضم الذي هو ضد القصر‏.‏ ودل على إرادة من امتناعه من التصرف‏.‏

وهذا البيت أورده علماء المعاني على أن فيه جعل الإيماء إلى وجه الخبر وسيلةً إلى التعريض بالتعظيم لشأنه‏.‏ وذلك في قوله‏:‏ إن الذي سمك، ففيه إيماءٌ إلى أن الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة، بخلاف ما لو قيل إن الله، ونحوه‏.‏

ثم فيه تعريض بتعظيم بنائه، لكونه فعل من رفع السماء، التي لا أرفع من بنائها ولا أعظم‏.‏ قال الخلخالي‏:‏ وإدراك مثل ذلك يحتاج إلى لطف طبع‏.‏

والبيت مطلع قصيدةٍ عدتها تسعةٌ وتسعون بيتاً للفرزدق يفخ بها على جرير ويهجوه‏.‏ وبعده‏:‏

بيتاً بناه لنا المليك وما بنى *** حكم السماء فإنه لا ينقل

بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه *** ومجاشعٌ وأبو الفوارس نهشل

يلجون بيت مجاشع وإذا احتبو *** برزوا كأنهم الجبال المثل

لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم *** أبداً إذا عد الفعال الأفضل

وتقدم بعض أبيات منها في باب الظروف في الشاهد السابع والتسعين بعد الأربعمائة‏.‏

وبيتاً في البيتين بالتنوين بدل من الأول‏.‏ وزرارة، بالضم هو زرارة بن عدس بالضم أيضاً، ابن زيد بن عبد الله بن دارم‏.‏ ومجاشع‏:‏ ابن درام‏.‏ ونهشل‏:‏ ابن دارم‏.‏ ومحتبٍ‏:‏ اسم فاعل من الاحتباء‏.‏

أراد أنهم متمكنون في بيت العز كتمكن المحتبي‏.‏

روى صاحب الأغاني بسنده عن سلمة بن عياش، قال‏:‏ دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوسٌ فيه، وقد قال قصيدته‏:‏

إن الذي سمك السماء بنى لن ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

وقد أفحم وأجبل، فقلت له‏:‏ ألا أرفدك‏؟‏ فقال‏:‏ وهل ذلك عندك‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏

ثم قلت‏:‏

بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

فاستجاده، وغاظه قولي، فقال لي‏:‏ ممن أنت‏؟‏ قلت‏:‏ من بني عامر بن لؤي‏.‏ فقال‏:‏ لئامٌ والله، جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم‏.‏ فقلت‏:‏ ألأم والله منهم قومك، جاءك رسول مالك بن المنذر، وأنت سيدهم وشاعرهم، فأخذ بأذنك يقودك حتى حبسك، فما اعترضه أحد ولا نصرك‏.‏ فقال‏:‏ قاتلك الله ما أمكرك‏!‏ وأخذ البيت فأدخله في قصيدته‏.‏ انتهى‏.‏

ويلجون من الولوج، وهو الدخول‏.‏ والمثل‏:‏ جمع ماثل، كركع جمع راكع‏.‏ والفعال، بالفتح‏:‏ الجميل‏.‏

وقد عارضه جريرٌ بقصيدةٍ مثلها، عدتها اثنان وستون بيتاً، منها‏:‏ الكامل

أخزى الذي سمك السماء مجاشع *** وبنى بناءك بالحضيض الأسفل

إلى أن قال‏:‏

وقضت لنا مضرٌ عليك بفضلن *** وقضت ربيعة بالقضاء الفيصل

إن الذي سمك السماء بنى لن *** عزاً علاك فما له من منقل

وترجمة الفرزدق وجرير قد تقدمت في أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏